لما كانت كلمة الشهادة علماً على النطق بالشهادتين معاً، وكانتا متلازمتين لا تنفك إحداهما عن الأخرى، كان من الواجب على من أتى بكل منهما أن يعرف ما تدل عليه الكلمة، ويعتقد ذلك المعنى، ويطبقه في سيرته ونهجه، فبعد أن عرفت أن ليس المراد من لا إله إلا الله مجرد التلفظ بها، فكذلك يقال في قرينتها، بل لابد من التصديق بها والالتزام بمعناها ومقتضاها، وهو الاعتقاد الجازم بأنه صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه عز وجل، قد حمله الله هذه الشريعة كرسالة، وكلفه بتبليغها إلى الأمة، وفرض على جميع الأمة تقبل رسالته والسير على نهجه، والبحث في ذلك يحتاج إلى معرفة أمور يحصل بها التأثر والتحقق لأداء هذه الشهادة والانتفاع بها.
الأمر الأول: أهلية النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الرسالة.
قال الله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار)(القصص:68).
وقال تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالته)(الأنعام:124).
وقال تعالى: (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار)(ص:47) .
ونحو هذه الآيات التي تفيدنا بأن رسل الله من البشر الذين فضلهم واجتباهم وطهرهم، حتى أصبحوا أهلاً لحمل رسالته، وأمناء على شرعه ودينه، ووسطاء بينه وبين عباده، وقد ذكر الله عن بعض الأمم المكذبة للرسل أنهم قالوا لرسلهم: (إن أنتم إلا بشر مثلنا)(إبراهيم:46) ، فكان جواب الرسل أن قالوا: (إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده)(إبراهيم:11).
وحيث إن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل وأفضلهم، وقد خصه بما لم يحصل لغيره ممن قبله، فإنه بلا شك على جانب كبير من هذا الاصطفاء والاختيار الذي أصبح به مرسلاً إلى عموم الخلق من الجن والإنس، وقد قال الله تعالى له: (وإنك لعلى خلق عظيم)(القلم:4).
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان خلقه القرآن تعني أنه يطبق ما فيه من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال التي يشهد بحسنها وملاءمتها كل عاقل، فلقد كان قبل نزول الوحي عليه على جانب كبير من الأمانة والصدق والوفاء والعفاف ونحوها حتى كان أهل مكة يعرفونه بالصادق الأمين، وقد تضاعفت وتمكنت فيه تلك الأخلاق بعد النبوة، فكان يتحلى بأعظم درجات الكرم والجود والحلم والصبر، والمروءة والشكر، والعدل والنزاهة، والتواضع والشجاعة … إلخ، كما يوجد ذلك مدوناً بأمثلة رائعة في كتب السيرة والتاريخ، ولا يخالف في ذلك إلا من أنكر المحسوسات. وهكذا كان صلى الله عليه وسلم مبرءاً عن النقائص ومساوئ الأخلاق التي تزيل الحشمة، وتسقط المروءة، وتلحق بفاعلها الإزراء والخسة، كالبخل والشح، والظلم والجور، والكبر والكذب، والجبن والعجز والكسل، والسرقة والخيانة ونحوها.
الأمر الثاني: عصمته من الخطايا:
اتفقت الأمة على أن الأنبياء معصومون من كبائر الذنوب، لمنافاتها للاجتباء والاصطفاء، ولأن الله حملهم رسالته إلى البشر، فلابد أن يكونوا قدوة لأممهم، وكلفهم أن يحذروا الناس من مقارفة الكفر والذنوب، والفسوق والمعاصي، فلو وقع منهم ظاهراً شيء من هذه الخطايا لتسلط أعداؤهم بذلك على القدح فيهم، والطعن في شريعتهم، وذلك ينافي حكمة الله تعالى، فكان من رحمته أن حفظهم من فعل شيء من هذه المخالفات، وكلفهم بالنهي عنها، وبيان سوء مغبتها، كما جعلهم قدوة وأسوة في الزهد والتقلل من شهوات الدنيا التي تشغل عن الدار الآخرة، فأما صغائر الذنوب فقد تقع من أحدهم على وجه الاجتهاد، ولكن لا يقرون عليها، فلا تكون قادحة في العدالة، ولا منافية للنبوة، وإنما هي أمارة على أنهم بشر لم يصل أحدهم إلى علم الغيب، ولا يصلح أن يمنح شيء من صفات الربوبية. وقد ذكر المفسرون وأهل العلم بعضاً مما وقع من ذلك، كقوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه)(الأنعام:52).
وقوله: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتنك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً)(الإسراء:52)، ونحو تلك الوقائع التي فعلها اجتهاداً لما يؤمله من مصلحة ظاهرة علم الله تعالى أنها لا تتحقق، فأما المعاصي والذنوب فإن الله تعالى حماه من فعلها أو إقرارها لمنافاة ذلك لصفات الرسالة والاختيار، ولمخالفة ما ورد عنه من التحذير من الكفر والفسوق والعصيان، فأما تبليغ ما أوصى إليه من الشرع فقد ذكر العلماء المحققون اتفاق الأمة على عصمته بل وعصمة الأنبياء فيما يبلغونه عن الله تعالى من الوحي والتشريع بل إن الله جل ذكره قد عصمه قبل النبوة عن الشرك والخنا ونحو ذلك.
فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به … وما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته" ذكره القاضي عياض في كتاب الشفا وغيره، وقال ابن إسحاق في السيرة: فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية ومعائبها، لما يريد به من كرامته ورسالته وهو على دين قومه، حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم خلقاً، وأصدقهم أمانة وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزهاً وتكرماً، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لما جمع الله به في صغره وأمر جاهليته.
الأمر الثالث: عموم رسالته:
اختص محمد صلى الله عليه وسلم دون الأنبياء بخصائص كثيرة ذكر بعضها في حديث جابر المتفق عليه بقوله: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة"(صحيح البخاري)، وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الأسود والأحمر" (رواه مسلم). وعلى هذا فإن على جميع البشر أن يتبعوه ويطيعوه، فإنهم جميعاً من أمته أمة الدعوة، وقد قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً)(سبأ:28)، أي للناس كافة وقال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)(الأعراف:158).
وقد وردت الخطابات في القرآن لعموم الناس كقوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم)(البقرة:21)، وقال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم)(النساء:70)، وقال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً)(النساء:147).
فالإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من ربه، فهذه النصوص تبين أن جميع البشر مكلفون باتباع رسالته، وملزمون بطاعته، وقد اشتهر أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجن كما بعث إلى الإنس، واستدل لذلك بقوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين) إلى قوله: (يقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به)(الأحقاف:29-31).
وكذا قوله تعالى: (قل أوحي إلي إنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءاناً عجبا. يهدي إلى الرشد فأمنا به)(أول: الجن).
وقد زعم اليهود والنصارى لعنهم الله أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة بالعرب، وذلك بعد أن اطمأنوا إلى صحة رسالته، وما تأيد به من المعجزات، وما حصل له من الأتباع، فلم يجدوا بداً من التصديق بأنه مرسل من ربه، ولكن حملهم الكبر وحب المناصب والمكاسب على ترك اتباعه، وقد اعترفوا بأن ما أنزل إليه فهو وحي من الله تعالى لصدقه وصحة رسالته، ومع ذلك لم يتقبلوا ما فيه من الأوامر الموجهة إليهم كقوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآيتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون. ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)(البقرة:41-42)، ونحو ذلك من الآيات.
الأمر الرابع: تبليغه الرسالة:
قال الله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)(المائدة67).
وهذا تكليف من ربه تعالى فلابد من حصوله مع أن هذه وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم من جملتهم، وقد قال تعالى: (إن عليك إلا البلاغ)(الشورى:48)، وقال: (وما على الرسول إلا البلاغ المبين)(النور:54).
وقد شهد له صحابته رضي الله عنهم بهذا البلاغ والبيان، فيقول أبو ذر رضي الله عنه: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علماً). وروى أحمد وابن ماجة عنه صلى الله عليه وسلم قال: (لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" وفي صحيح مسلم وغيره عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم"(صحيح مسلم) وقد اشتهر أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بدعوة أهل بلده وقومه، ثم بدعوة العرب في أنحاء الجزيرة، ثم بمن وراءهم، فكان يرسل الرسل إلى القبائل في البوادي والقرى للدعوة إلى الله وقبول هذه الرسالة، ثم بعث الدعاة إلى اليمن والبحرين وغيرهما، ثم بعث كتباً تتضمن الدعوة إلى هذه الشريعة إلى ملوك الفرس والروم وغيرهم، فما توفي حتى انتشرت دعوته، واشتهر أمره عند القريب والبعيد (فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة)(النحل:36).
وهكذا قام صحابته من بعده بالدعوة إلى دينه وقتال من أبى وامتنع من قبولها، حتى يدخل في الإسلام أو يعطي الجزية، ويلتزم الذل والصغار، حتى بلغت هذه الدعوة أقطار الأرض في أقصر مدة، كما ذكر في كتب التاريخ، ومع ذلك فإن من كان نائياً في طرف البلاد وقدر أنه لم يسمع بهذه الشريعة أصلاً فإن له حكم أهل الفترات، وهو مع ذلك مكلف بأن يبحث وينقب عن الدين الذي خلق له وما يدين به الناس حوله.
الأمر الخامس: ختم النبوة:
لما كانت هذه الشريعة لجميع الخلق وقد كلف بها جميع العباد في أقطار البلاد، فإنما ذلك لكونها خاتمة الشرائع، وآخر الرسالات المنزلة من السماء، فيجب علينا الإيمان بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وآخر الرسل، قال الله تعالى: (ما كان محمدا أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين)(الأحزاب:40). وقد قرئ بفتح التاء وكسرها، وأصل الخاتم ما يختم به ما قبله، ومنه ما تختم به الرسائل حتى لا يضاف إليها شيء ليس منها، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى الخلق، فيلزم من كونه خاتم الأنبياء أن يكون آخر الرسل، وقد روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بني بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"(صحيح:مسلم).
وروى مسلم أيضاً عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي)(صحيح مسلم)، وفي سنن أبي داود وغيره في حديث ثوبان الطويل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي"، فيجب الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء وأن من ادعى النبوة بعده فهو كاذب، وأن عيسى بن مريم عليه السلام حين ينزل في آخر الزمان إنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو كفرد من أفراد هذه الأمة، وإن كان ينزل عليه الوحي، لكنه لا يخرج عن هذا الشرع الشريف، وعلى هذا فكل من زعم النبوة أو ادعى الرسالة في هذه الأمة فهو كذاب أفاك، ضال مضل، ولو أتى بمخرقة أو شعوذة، ولو سحر أعين الناس بأنواع من السحر والبهرج الذي يروج على الرعاع والجهلة من العوام، كما جرى على يدي الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب، من الأحوال الشيطانية، والترهات الباطلة التي يعلم كذبها كل ذي عقل سليم، وكذلك غيرهما ممن ادعى النبوة وحصل له اتباع وشوكة، وفتن به بعض الناس، ومن آخرهم غلام أحمد القادياني الذي انتشر شره وفتن بشبهته طوائف وأمم في الهند والسند وكثير من البلاد، وهكذا كل مدع للنبوة إلى يوم القيامة، وآخرهم الدجال الكذاب الذي وردت السنة بأمره وبيان فتنته والتحذير من شره، وقد قال تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم)(الشعراء:221-222).
فهذا يدل على أن أولئك الكذابين تنزل عليهم الشياطين، وتخيل إليهم إنما يأتيهم وحي من الله، ولكن سنة الله في خلقه أن يجعل على الحق نوراً، وأن الخرافات والأكاذيب لابد وأن ينكشف أمرها، ويتجلى لأولى الألباب.
الأمر السادس: واجب الأمة نحوه:
وبعد أن عرفنا صدقه صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وصحة رسالته، ووجوب تصديقه، وذلك مدلول شهادة أن محمداً رسول الله، التي تستلزم تصديقه ثم التعبد باتباعه، والإيمان بما يترتب على ذلك من الثواب، وعلى تركه من العقاب فإن من واجبنا أن نقوم بتحقيق ذلك وتطبيقه في واقع الحياة، وذلك يتمثل في أوامر وردت أدلتها في الكتاب والسنة.
(1) فمنها الإيمان به صلى الله عليه وسلم، فقد أمر الله بذلك كما أمر بالإيمان بالله والملائكة والكتب، ورتب الله تعالى على ذلك جزيل الثواب، وعلى تركه أليم العقاب، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخرة فقد ضل ضللاً بعيداً)(النساء:136)، وقال تعالى: (يا أيها الذي آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم)(الحديد:28)، وقال سبحانه: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا)(التغابن:
، وقال تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلمته)(الأعراف:158).
قال سبحانه وتعالى: (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً)(الفتح:13).
وغيرها من الآيات في هذا المعنى، وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به"(صحيح مسلم) وفسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل المشهور بقوله: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره"(رواه البخاري) ولا شك أن الإيمان به صلى الله عليه وسلم يستلزم تصديقه فيما جاء به، واعتقاد صحة رسالته، ذلك أن أصل الإيمان "يقين القلب واطمئنانه بصحة الشيء" ثم التكلم به عن معرفة وإيمان، ثم تطبيق ذلك بالعمل بمقتضاه فباجتماع ذلك يتم الإيمان، ويعتبر وسيلة للنجاة. وبتخلف تصديق القلب يبطل أثر الشهادة ولا تنفع قائلها. ولهذا كذب الله المنافقين بقوله: (إذا جاءك المنفقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)(أول المنافقون) .
2) ومن ذلك الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم، والتحذير من معصيته، ولا شك أن طاعته من علامات الإيمان به، فإن التصديق الجازم بصدقه يستلزم طاعته فيما بلغه عن الله تعالى، فمن خالفه في ذلك أو شيء منه عناداً أو تهاوناً لم يكن صادقاً في شهادته له بالرسالة، ولقد أمر الله تعالى بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة من القرآن، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر)(النساء:59)، وقال تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين)(المائدة:92)، وقال سبحانه وتعالى: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا)(النور:54).
ومثل معنى ذلك قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(الحشر:7)، بل قد رتب على طاعته صلى الله عليه وسلم جزيل الثواب فقال تعالى: (وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون)(النور:56)، وقال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)(الأحزاب:71).
وهكذا توعد على معصيته بالعقوبة الشديدة، قال الله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنت تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خلداً فيها وله عذاب مهين)(النساء:13-14) .
وحكى عن أهل النار قولهم: (يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا)(الأحزاب:66).
وورد في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله"(رواه البخاري) ، ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم إنما يأمر بما أوحى إليه، فطاعته في ذلك طاعة لربه، قال الله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً)(النساء:80).
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل الناس يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله وكيف يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"(صحيح البخاري) ولا شك أن طاعته هي فعل ما أمر به، وتجنب ما نهى عنه، والتسليم مع ذلك لما جاء به، والرضى بحكمه وترك الأعتراض على شرعه والتعقب والانتقاد لحكمه.
(3) ومن ذلك أمر الأمة باتباعه والاقتداء بسنته، وقد رتب الله على ذلك الاهتداء والمغفرة، وجعله علامة على صدق المحبة لله تعالى، قال عز وجل: (واتبعوه لعلكم تهتدون)(الأعراف:158) ولما ادعى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه أنزل آية المحنة، وهي قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين)(آل عمران:31-32)، وقال تعالى: )لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيراً((الأحزاب:21).
ولا شك أن مما يجب على العباد محبة ربهم الذي خلقهم وأنعم عليهم، ولكن حصول هذه المحبة وقبولها متوقف على اتباع هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله من ثواب اتباعه محبة الله تعالى لمن اتبعه ومغفرته له، ولكن علامة هذا الاتباع تقليده صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه، والاقتداء به في سيرته وأعماله وقرباته، وتجنب كل ما نهى عنه، والحذر من مخالفته التي نهايتها الخروج عن التأسي به، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فمن رغب عن سنتي فليس مني"(رواه البخاري).
(4) ومن ذلك محبته الصادقة بالقلب والقالب، بل تقديمها على ما سواها قال الله تعالى: (قل إن كان ءاباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومسكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)(التوبة:24).
فانظر كيف وبخهم على تقديم شيء من هذه الأصناف الثانية التي تميل إليها النفس عادة وتؤثر الحياة لأجلها على محبة الله ومحبة رسوله، وتوعدهم بقوله (فتربصوا).. الخ أي انتظروا أمر الله وهو أثر سخطه وغضبه، بما ينزله من العقوبة، وفي ذلك أبلغ دليل على وجوب محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في سنته كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"(متفق عليه).
وفي الصحيحين أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"(رواه البخاري)، ولما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي قال: "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك( فقال رضي الله عنه والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي. فقال: "الآن يا عمر"(رواه البخاري)، وقد ورد في الحديث أن من ثواب محبته صلى الله عليه وسلم الاجتماع معه في الآخرة، وذلك لما سأله رجل عن الساعة فقال: "ما أعددت لها؟ قال ما أعددت لها إلا حب الله ورسوله. فقال: "أنت مع من أحببت"(رواه البخاري).
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرء مع من أحب"(رواه البخاري) وكفى بذلك ثواباً وأجراً لهذه المحبة، ولكن المحبة الصادقة تستلزم الاقتداء به والتأدب بآدابه، وتقديم سنته على رضي كل أحد، وتستلزم أيضاً محبة من يحبه ويواليه، وبغض من يبغضه ويعاديه، ولو كان أقرب قريب، فمن استكمل ذلك فقد صدق في هذه المحبة، ومن خالفه أو نقص شيئاً من ذلك نقصت محبته بقدر ذلك.
(5) ومن ذلك احترامه صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره كما ذكر في قوله تعالى: ()لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه)(الفتح:9)، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين أمتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم)(أول الحجرات)، فنهاهم عن التقدم بين يديه برأي أو نظر يخالف ما جاء به، ونهاهم عن رفع الصوت بحضرته، أو الجهر له بالقول بدون مبرر، وتوعدهم على ذلك بحبوط العمل، وقال تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً)(النور:63) أي لا تنادوه باسمه العلم كما يدعو أحدكم الآخر، ولكن ادعوه بما تميز به بأن تقولوا: يا نبي الله أو يا رسول الله. وما ذاك إلا لما خصه الله به من الفضل والرفعة، وفي تعزيره وتوقيره واحترامه تعظيم لسنته، ورفع لقدرها في نفوس أتباعه، مما يحصل به اتباعه وامتثال أمره وتجنب نهيه.
(6) ومن ذلك وجوب التحاكم إليه والرضا بحكمه، ومنع الاعتراض عليه، قال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)(النساء:59)، وقال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)(النور:63)، وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)(النساء:65) .
وأجمعت الأمة أن الرد والتحاكم بعده يكون إلى سنته، ففي هذه الآيات أعظم برهان على تحريم مخالفته، ومنع الاستبدال بسنته، فانظر كيف حذر الذين يخالفون عن أمره بالفتنة وهي الشرك أو الزيغ، وبالعذاب الأليم، وكيف أقسم على نفي الإيمان عنهم حتى يحكموه في كل نزاع يحدث بينهم، ويسلموا لقضائه، ولا يبقى في نفوسهم أي حرج أو تعنت مما قضى به بينهم، وكفى بذلك وعيداً وتهديداً لمن ترك سنته بعد معرفة حكمها تهاوناً واستخفافاً، واعتاض عنها بالعادات والآراء والقوانين الوضعية ونحوها.
الأمر السابع: الاقتصاد والتوسط في حقه صلى الله عليه وسلم :
جرت سنة الله في خلقه بوقوع الإفراط أو التفريط، وأن كل أمة يقع منهم في الغالب غلو أو تقصير، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته المتبعين له من الغلو في يحقه وإعطائه شيئاً من خالص حق الله تعالى، ويتبين ذلك بما يأتي:
(1) أنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج عن كونه بشراً، قال الله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي)(الكهف:110) فبين أنه اختص بالوحي إليه فقط، وقال تعالى: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً)(الإسراء:93).
وذلك لما طلب منه المشركون أن يفجر الأرض أو يسقط السماء عليهم .. إلخ، فبين لهم أن الذي يملك ذلك هو ربه وحده، فأما هو فإنما تميز بالرسالة التي حمله الله إياها، وقد حكى الله عن الأمم السابقة طعنهم في رسالة الرسل بأنهم بشر، كما في قوله تعالى عن قوم هود أو صالح: (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون. ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخسرون)(المؤمنون:33-34)، وحكى عن المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: (مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق)(الفرقان:7) ، أي يسعى للتكسب وطلب الرزق، فأجاب عن ذلك بقوله: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق)(الفرقان:20)، أي ليسوا ملائكة فإن البشر لا يتمكنون عادة من رؤية الملائكة بل لو أرسل الله ملكاً لما تمكنوا من مشاهدته حتى يتمثل في صورة إنسان فيقع الاشتباه، قال تعالى: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون)(الأنعام:20).
ولما وقع منه صلى الله عليه وسلم السهو في الصلاة ولم يذكروه ظناً منهم أن الصلاة قد قصرت فقال: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) (متفق عليه) ومتى كان الرسل بشراً فلا يناسب إعطاءهم شيئاً من حق الله من صفة أو عمل.
(2) أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وإنما يخبر بما أخبره الله به وأوحاه إليه، قال الله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي)(الأنعام:50)، وقال تعالى: (قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم)(الأحقاف:9)، وقال تعالى: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء)(الأعراف:188).
فالغيب لا يعلمه إلا الله تعالى وإنما يظهر بعض خلقه على شيء من ذلك كمعجزة وبرهان على صدقه كما قال تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً)(الجن:26-27).
أي أنه تعالى يطلع من ارتضاه وهم رسله على أمور من الغيب مما سبق أو مما يأتي، ولا ينافي ذلك قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون)(النمل:65) .
فإن ما وقع من الإخبار في الأحاديث عن الأمور المستقبلة هو من الوحي الذي أطلع الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة الرسول الملكي، أو بما فتح الله عليه وألهمه، ومتى كان هذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل لم يصلح أن يصرف لهم شيء من حق الله الذي هو عبادته وحده، ولا أن يوصفوا بما اختص به الرب تعالى، فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على الجاريتين اللتين عند الربيع بنت معوذ قولهما: وفينا نبي يعلم ما في غد، رواه الترمذي وقالت عائشة رضي الله عنها: "من حدثك أن محمداً يعلم في ما في غد فلا تصدقه" (رواه البخاري) وورد في حديث جبريل عليه السلام لما سأل عن الساعة قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأحدثك عن أماراتها إذا ولدت الأمة ربها، وإذا رأيت الحفاة العراة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت"(متفق عليه) وهذه الخمس يعني مفاتح الغيب المذكورة في قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)(الأنعام:59).
فمن ادعى العلم بشيء منها أو نسبه إلى بشر فهو كاذب.
(3) أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك الضر ولا النفع لنفسه فضلاً عن غيره، قال الله تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله)(الأعراف:188)، وقال تعالى: (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً)(الجن:21).
وما ذاك إلا أن الملك لله وحده، فهو الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع، وهو مالك الملك، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، أما الخلق كلهم بما فيهم الأنبياء فإنهم مملوكون،يعمهم قول الله تعالى: (لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير)(سبأ:22).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد هذه الآية: نفى الله عما سواه كلما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عوناً لله.. الخ. وقد قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : (ليس لك من الأمر شيء)(آل عمران:128).
وذلك حين أن شج النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد وكسرت رباعيته، فقال: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم" أو كان ذلك لما قنت عليه الصلاة والسلام يدعو على بعض المشركين بمكة، فأنكر الله عليه، وأخبره بأن الأمر كله لله وحده ليس لك منه شيء ، وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أنذر عشيرته وأقاربه وقال لهم: "أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئاً" حتى قال ذلك لعمه وعمته وابنته، وفي رواية "اشتروا أنفسكم"(رواه البخاري) أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، وطاعته فيما أمر والانتهاء عما عنه زجر، فإن في ذلك إنقاذاً من النار، دون الاعتماد على النسب والقرابة، فدفع بذلك ما يتوهمه بعضهم من أنه يغني عن أقاربه ويشفع لهم، وهذا الوهم قد سرى وتمكن في نفوس الجم الغفير، فتراهم يعتمدون على مجرد الانتساب إلى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعدونه شرفاً، ظانين أن النجاة والشفاعة تحصل لهم بدون عمل، بل إنهم يخالفون سنته، ويعصون الله ورسوله علناً، كما أن هناك آخرين يتعلقون بحبه المزعوم دون اتباعه وطاعته، ويعتقدون أنه يشفع لهم بمجرد تلك المحبة الوهمية رغم مخالفة مدلول المحبة من تقليده والسير على نهجه، فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا يدفع الضر والعذاب عن نفسه لو عصاه كما قال تعالى: (قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً)(الجن:22).
فكيف بغيره من قريب أو بعيد، وقد بين عليه الصلاة والسلام لأقاربه أنه لا ينجيهم من عذاب الله ولا يدخلهم الجنة ولا يقربهم إلى الله، وإنما أعمالهم هي التي تنقذهم من النار. وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم حاول هداية عمه أبي طالب فلم يقدر على ذلك، فلما حضرته الوفاة جاءه فقال له: (يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) فلقنه جلساء السوء الحجة الشيطانية، فكان آخر كلامه: هو على ملة عبدالمطلب. ونزل في ذلك قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)(القصص:56) .
ففي هذه القصة أعظم ما يبطل شبهة المشركين الذي يغلون في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، ويسألونه تفريج الكروب، وغفران الذنوب، ويهتفون باسمه عند الشدائد بقولهم: "يا رسول الله". ونحو ذلك، فإذا كان هو عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق وأقربهم من الله، وأعظمهم عنده جاهاً، ومع ذلك حرص على هداية عمه أبي طالب في حياته وعند وفاته فلم يستطع ذلك، لأن الله تعالى كتب عليه الشقاء، وقد عزم على الاستغفار له. فنهاه الله عن ذلك بقوله: (ما كان للنبي والذي آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم)(التوب:113).
ففي ذلك دليل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك لغيره نفعاً ولا يدفع عنه ضراً، ولو دعاه ورجاه وهتف باسمه، ولو زعم أنه يحبه حباً شديداً، فلو كان عند النبي صلى الله وسلم شيء من هداية القلوب أو تفريج الكربات، لكان أولى الناس بذلك عمه الذي كفله وحماه، وحال بينه وبين أذى المشركين، فإذا لم يقدر على هدايته ونجاته فغيره بطريق الأولى.
4) عبوديته صلى الله عليه وسلم شرف وفضيلة، فقد ثبت في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله" (رواه البخاري برقم 3445) يقول الشيخ سليمان بن عبدالله رحمه الله على هذا الحديث في شرح التوحيد ص272: قوله (إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله) أي: لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية، وإنما أنا عبدالله فصفوني بذلك كما وصفني به ربي وقولوا عبد الله ورسوله فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره وأرتكاباً لنهيه وناقضوه أعظم المناقضة وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبدالله ورسوله، وأنه لا يدعى ولا يستعان به، ولا ينذر له، ولا يطاف بحجرته، وأنه ليس له من الأمر شيء، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله أن في ذلك هضماً لجنابه، وغضاً من قدره، فرفعوه فوق منزلته، وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريباً منه، فسألوه مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب. وقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب (الاستغاثة) عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف فيه مصنفاً. وكان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله. وحكي عن آخر من جنسه يباشر التدريس، وينصب إلى الفتيا أنه كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن، ثم انتقل إلى ذرية الحسن، إلى أبي الحسن الشاذلي، وقالوا: هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع، ومن هؤلاء من يقول في قول الله تعالى: (وتسبحوه بكرة وأصيلاً) (الفتح:9) إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يسبح بكرة وأصيلاً، ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله. فيجعلون الرسول معبوداً. قلت: وقال البوصيري:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس، وكل ذلك كفر صريح. ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته، وهذا شأن اللعين لابد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، لأن هذا ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح، وهم أبعد الناس منه، فإن التعظيم بالقلب: ما يتبع اعتقاد كونه عبداً رسولاً، من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ويصدق هذه المحبة أمران:
أحدهما: تجريد التوحيد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على تجريده، حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، حتى قال له رجل: "ما شاء الله وشئت". قال: "أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده" (رواه أحمد). ونهى أن يحلف بغير الله وأخبر أن ذلك شرك، ونهى أن يصلي إلى القبر أو يتخذه مسجداً أو عيداً، أو يوقد عليه سراج، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه.
الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه، والرضى بحكمه والانقياد له والتسليم، والإعراض عما خالفه،وعدم الالتفات إلى ما خالفه، حتى يكون وحده هو الحاكم المتبع المقبول قوله، المردود ما خالفه كما كان ربه تعالى وحده هو المعبود المألوه المخلوق المستغاث به، المتوكل عليه الذي إليه الرغبة والرهبة، الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد ومغفرة الذنوب الذي من جوده الدنيا والآخرة الذي خلق الخلق وحده، ورزقهم وحده، ويبعثهم وحده ويغفر ويرحم ويهدي ويضل، ويسعد ويشقي وحده، وليس لغيره من الأمر شيء كائناً من كان، لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا جبريل عليه الصلاة ولا غيرهما، فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم، النافع للمعظِّم في معاشه ومعاده، والذي هو لازم إيمانه وملزومه. وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه وأثنى على نفسه من غير غلو ولا تقصير، كما فعل عباد القبور، فإنهم غلوا في مدحه إلى الغاية. وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته، والسعي في إظهار دينه، ونصر ما جاء به، وجهاد ما خالفه.
وبالجملة فالتعظيم النافع هو التصديق فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله، وتحكيمه وحده، والرضى بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلي أقواله، فما وافقها من قوله صلى الله عليه وسلم، قبله، وما خالفها رده أو تأوله أو أعرض عنه، والله سبحانه يشهد وكفى به شهيداً وملائكته ورسله وأولياؤه، أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك، والله المستعان. هذا كلام الشيخ رحمه الله وقد حكى ما شاهده في زمانه وقبله من أقوام جهلة بالتوحيد ادعوا محبة النبي صلى الله عليه وسلم فبالغوا في مدحه حتى وصفوه بما لا يستحقه إلا الله تعالى من الملك والعلم والتصرف، وحتى صرفوا له خالص حق الله عز وجل من الدعاء والرجاء وتفويض الأمور إليه والاعتماد عليه، وقد ذكر رحمه الله في شرح التوحيد ص186 وما بعدها بعض ما قال أهل الغلو والإطراء في حقه صلى الله عليه وسلم، وأورد أبياتاً من قصيدة البردة للبوصيري كقوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وما بعدها من الأبيات، ثم بين ما فيها من الشرك الصريح، وذكر أيضاً بعضاً من شعر البرعي الذي بالغ فيه وغلا، ووقع في عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم صريحاً، ونسى ربه عز وجل وهكذا ذكر النعمي في (معارج الألباب ص196) وما بعدها بعض أقوال الغلاة ومبالغتهم في التعلق بالأموات،
ومن ذلك أبيات شعر تتضمن الشرك الواضح بالنبي صلى الله عليه وسلم وأولها قوله:
يا سيدي يا صفي الدين يا سندي يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري
أنت الملاذ لما أخشى ضرورتــه وأنت لي ملجأ من حادث الدهـــر
إلى آخر تلك الأبيات الشركية، وعلق عليها رحمه الله يقول: فلا ندري أي معنى اختص به الخالق بعد هذه المنزلة، من كيفية مطلب، أو تحصيل مأرب، وماذا أبقى هذا المشرك الخبيث من الأمر، فإن المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون كل ما عبدوه من دون الله لشيء من هذا ولا لما هو أقل منه. أ.هـ.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاف على أمته من هذا الغلو ويحذرهم من أسبابه، فقد روى أبو داود بسند جيد عن عبدالله بن الشخير رضي الله عنه قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا. فقال: "السيد الله تبارك وتعالى" قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم"(هو في سنن أبي داود برقم 4806). وعن أنس رضي الله عنه أن أناساً قالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. فقال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبدالله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل". (رواه النسائي بسند جيد) وهذا كثير في السنة كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله" (رواه الطبراني). وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال له رجل: "ما شاء الله وشئت" فقال: "أجعلتني لله مثلاً ما شاء الله وحده" فالنبي صلى الله عليه وسلم هو سيد الخلق وأفضلهم وخيرهم، لكنه يكره المدح سيما أمام الممدوح، حتى قال: "إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب"(رواه مسلم)، وما ذاك إلا أن المدح قد يوقع الممدوح في الإعجاب والكبرياء التي تحبط الأعمال أو تنافي كمال التوحيد، وقد افتخر عليه الصلاة والسلام بالعبودية لربه وهي الذل والتواضع له، وذلك شرف وفضيلة، ولذلك ذكره الله باسم العبد في قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)(البقرة:23). وفي قوله: (سبحان الذي أسرى بعبده) (أول الإسراء) وقوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)(أول الكف). وقوله: (وأنه لما قام عبدالله يدعوه)(الجن الآية:19).
فإن العبودية لله تعالى تقتضي غاية الذل وغاية المحبة، فالتذلل لله تعالى يستدعي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى، وأن يرى نفسه حقيراً ذميماً مقصراً في واجبه، فيرجع إلى نفسه بالمعاتبة، ويعترف لربه بالفضل والإنعام، وكذلك الحب يستدعي محبة ما يحبه الله وكراهة ما يكرهه من الأقوال والأفعال والإرادات، فظهر بذلك كمال صفة العبودية لرب الأرباب.
(5) موته صلى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء والرسل، قال الله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون)(الزمر:30)، وقال تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون. كل نفس ذائقة الموت)(الأنبياء:34-35).
ثم إن المسلمين يدينون جميعاً بأن الأنبياء قبله قديماً قد ماتوا، وانتقضت أعمارهم التي كتب الله لهم في الدنيا، وأصبحوا في عالم البرزخ، وحيث ورد في النصوص ما يقتضي حياة الشهداء كقوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)(آل عمران:169).
فإن الأنبياء أولى بهذه الحياة، ومعلوم أن الشهداء قد خرجوا من هذه الحياة الدنيا، وقد قسمت أموالهم بين الورثة، وحلت نساؤهم لغيرهم، فكان ذلك أوضح دليل على موتهم، ولكن الله تعالى نهى أن نقول لهم أموات في قوله عز وجل: (ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياء ولكن لا تشعرون)(البقرة :154).
وهذه الحياة لا نعلم كيفيتها إلا أنا نتحقق أن أرواحهم خرجت من أبدانهم، وأن أعمارهم انقضت، وأعمالهم قد ختمت، وقد فسرت حياتهم في الحديث الصحيح بأن أرواحهم جعلت في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة وهذا يحقق أنها قد فارقت أبدانهم، وإنما تميزوا بهذه الحياة الخاصة، ومعلوم أن الأنبياء والرسل أولى بهذه الحياة، وبكل حال فإنها لا تمكنهم من إجابة من دعاهم، أو إعطاء من سألهم فنحن نعتقد أن نبي الله صلى الله عليه وسلم في حياة بزرخية أكمل من حياة الشهداء، وقد تميز بحماية جسده عن البلى، كما ثبت في سنن أبي داود عن أوس بن أوس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من خير أيامكم يوم الجمعة فأكثروا من الصلاة علي فيه فإن صلاتكم معروضة علي" قالوا: يا رسول الله كيف تعرض عليك وقد أرمت. قال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء"، وهذا أوضح دليل على أن روحه قد خرجت من جسده، ورفعت إلى الرفيق الأعلى، كما كان ذلك آخر طلبه من الدنيا، وكذا قد ورد في الحديث عن أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يسلم عليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"(رواه أبو داود)، وفي كيفية هذا الرد خلاف والله أعلم بذلك، وقد روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم(، وروى الحافظ الضياء في المختارة وغيره عن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم"، وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبدالعزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم عند القبر فناداني فقال: مالي رأيتك عن القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء فهذه الآثار تدل على شهرة ذلك عند السلف، وحرصهم على حفظ هذه السنة وتبليغها، ومعنى قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً" أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور التي لا تجوز الصلاة عندها، والمراد صلاة التطوع.
"ولا تتخذوا قبري عيداً" نهى صلى الله عليه وسلم من زيارة قبره على وجه مخصوص واجتماع معهود، بحيث يكون كالعيد الذي يتكرر الاجتماع فيه في زمن محدد، ويحصل به فرح واغتباط يعود ويتكرر كل عام مرة ومراراً، ثم أخبرنا بأن صلاتنا تبلغه أين ما كنا، يعني أن ما يناله من الصلاة والسلام حاصل مع القرب والبعد، فلا مزية لمن صلى عليه أو سلم عند القبر، وهذا معنى قول الحسن بن الحسن (وما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء) ومن قصد القبر للسلام فقط ولم يكن قصده المسجد فقد اتخذه عيداً كما فهم ذلك الحسن بن الحسن رضي الله عنه، وقد كره الإمام مالك رحمه الله لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي القبر النبوي لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك قال: (ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها). وقد كان الصحابة رضي الله عنهم وكذا كبار التابعين يصلون في المسجد النبوي خلف الخلفاء الراشدين أغلب الأوقات، ثم ينصرفون بعد السلام أو يجلسون في قراءة أو عبادة، ولم يحفظ عنهم الإتيان إلى القبر بعد كل صلاة، بل يكتفون بالصلاة والسلام عليه في التشهد، وذلك أفضل من الوقوف أمام القبر لذلك، رغم تمكنهم من الوصول إلى القبر في حياة عائشة وبعدها قبل بناء الحيطان دونه بعد أن أدخل في توسعة المسجد في عهد الوليد بن عبدالملك، وبكل حال فإن الصحابة لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج إذا قدم من سفر فيسلم عليه ثم ينصرف، كما نقل ذلك عن ابن عمر، ولم يحفظ عن غير