جاء القرآن بلغة العرب وعلى سننهم في الكلام، فتضمن جملاً اسمية تفيد الإخبار عن وقائع معينة وقضايا محددة، وتضمن أيضاً جملاً فعلية، تفيد الإخبار عن حدث مضى، أو طلب فعل معين، أو نهياً عن فعل محدد، وسيكون الحديث عن صيغة النهي في القرآن الكريم من حيث دلالتها وأنواعها.
تعريف صيغة النهي
صيغة (النهي) في التعريف هي: طلب الكف على فعل، وصيغتها (لا تفعل)، وهذه الصيغة هي حقيقة في التحريم، بمعنى أنها تفيد تحريم الفعل المنهي عنه. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر:7)؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم رجعوا في التحريم إلى مجرد النهي. قال الشافعي: "وما نهى عنه فهو على التحريم، حتى يأتي دلالة على أنها إنما أراد به غير التحريم". وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم.
هذا فيما يتعلق بصيغة (لا تفعل)، فأما لفظ (نهى)، فإنه يفيد عموم الترك، وهو أعم من أن يكون حراماً أو مكروهاً.
الفرق بين صيغة الأمر وصيغة النهي
صيغة النهي تقتضي الانتهاء الفوري عن المنهي عنه بمجرد صدور صيغة النهي، وتقتضي أيضاً الدوام على الانتهاء عن فعل المنهي عنه. والفرق بين النهي وبين الأمر: أن الأمر له حد ينتهي إليه، فيقع الامتثال فيه بالمرة الواحدة. أما الانتهاء عن المنهي عنه، فلا يتحقق إلا باستيعابه في العمر، فلا يتصور فيه تكرار، بل بالاستمرار به يتحقق الكف.
أنواع صيغ النهي
ذكرنا أن صيغة (لا تفعل) تفيد تحريم الفعل المنهي عنه، كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء:29)، وقوله سبحانه: {ولا تسرفوا} (الأنعام:141)، وقوله عز وجل: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} (الأنعام:151)، وهذا كثير في القرآن الكريم، يفيد تحريم هذه الأفعال على الجملة.
هذا من حيث أصل صيغة النهي، وقد ترد هذه الصيغة مجازاً لمعان غير التحريم، وقد ذكر الأصوليون من ذلك المعاني التالية:
أولاً: كراهية الفعل، ودرجة الكراهة دون درجة التحريم، ومما جاء في القرآن يفيد هذا المعنى قوله سبحانه: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} (البقرة:267)، قال الصيرفي: حثهم على إنفاق أطيب أموالهم، لا أنه يحرم عليهم إنفاق الخبيث من التمر، أو الشعير من القوت، وإن كانوا يقتاتون ما فوقه...فالمراد بـ {الخبيث} هنا: الأردأ. ومن هذا الباب أيضاً، قوله تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحا} (الإسراء:37)، فالنهي هنا نهي كراهية، لا نهي تحريم.
ثانياً: الدعاء، من صيغ النهي التي تفيد الدعاء قوله تعالى: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} (آل عمران:
، فالنهي هنا مراد منه الدعاء، والمعنى: لا تُمِل قلوبنا عن الحق جهلاً وعناداً منا، بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين، وثبتنا على هدايتك. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} (البقرة:286).
ثالثاً: التحقير لشأن المنهي عنه، من ذلك قوله تعالى: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه} (طه:131)، فالنهي في الآية هنا يفيد تحقير أمر الدنيا، وبيان أنها فتنة في حد ذاتها، وبالتالي فلا ينبغي التعلق بزينتها، ولا الاعتداد بزخارفها، ولا السعي وراء بهرجها.
رابعاً: بيان العاقبة، ومثاله قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران:169)، فالنهي عن حسبان الذين قتلوا في سبيل أمواتاً ليس على الحقيقة، بل المراد به أن عاقبة الجهاد هي الحياة، لا الموت.
خامساً: اليأس، ومثاله قوله سبحانه: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (التوبة:66)، المراد من النهي هنا تيئيس المنافقين، وبيان أنه لا أمل في إيمانهم بعد اليوم. ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم} (التوبة:94)، والمراد من النهي هنا تيئيس المنافقين أيضاً، وبيان أنهم غير مصدَّقِين في اعتذارهم الكاذب. وقس على ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم} (التحريم:7).
سادساً: الإهانة، ومثال النهي الذي يفيد معنى الإهانة قوله تعالى: {قال اخسئوا فيها ولا تكلمون} (المؤمنون:108)، فالمراد من النهي من كلامه سبحانه إهانتهم، وبيان أنهم لا يستحقون أن يكلمهم الله، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم. وقد روي أن أهل جهنم يدعون مالكاً، فلا يجيبهم أربعين عاماً، ثم يرد عليهم: {إنكم ماكثون} (الزخرف:77).
سابعاً: الإرشاد، من ذلك قوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} (المائدة:101)، فالنهي هنا مراد به الإرشاد إلى أن السؤال في أمور لا يفيد السؤال عنها غير ذي جدوى، وأن المطلوب السؤال عما يفيد.
ثامناً: الأدب، من ذلك قوله تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} (البقرة:237)، فالمراد من النهي هنا تعليم أدب احترام حق الصحبة بين الزوجين بعد الطلاق، وعدم نسيان ما كان بينهما من توادد وتراحم وتعاطف.
تاسعاً: التحذير، من ذلك قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران:102)، لم ينههم سبحانه عن الموت في وقت؛ لأن ذلك ليس إليهم، فالنهي ليس على حقيقته، بل المراد من النهي هنا التحذير من الردة إلى الكفر بعد الإيمان، ومجيء الموت والإنسان على حالة لا ترضي الله سبحانه.
عاشراً: التصبر، من ذلك قوله سبحانه: {لا تحزن إن الله معنا} (التوبة:40)، فالنهي عن الحزن هنا ليس على حقيقته؛ لأن ورود الحزن على الإنسان ليس مما يدخل تحت مقدروه، بل المراد النهي أن تعاطي أسباب الحزن. ونظيره قوله عز وجل: {ولا تحزن عليهم} (الحجر:88).
حادي عشر: إدخال الأمن، ومن أمثلته قوله تعالى: {يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين} (القصص:31)، فالنهي هنا أيضاً ليس على حقيقته؛ لأن جلب الخوف ليس بمقدور الإنسان، بل النهي منصباً على النهي عن تعاطي الأسباب المؤدية إليه، أو تعاطي الأسباب الدافعة له. ونحو ذلك قوله عز وجل: {قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين} (القصص:25).
ثاني عشر: التسوية، من ذلك قوله تعالى: {فاصبروا أو لا تصبروا} (الطور:16)، فالنهي عن الصبر في الاية ليس على الحقيقة، بل مراد النهي بيان أن صبرهم وعدمه سواء، وغير نافعهم شيئاً. قال السعدي: "أي: لا يفيدكم الصبر على النار شيئاً، ولا يتأسى بعضكم ببعض، ولا يخفف عنكم العذاب، وليست من الأمور التي إذا صبر العبد عليها هانت مشقتها وزالت شدتها". ونظير هذا قوله عز وجل: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} (التوبة:80)، والمعنى: أمرك بالاستغفار لهم ونهيُك عنه سواء.
وقد جعل ابن عاشور من النهي الذي يفيد التسوية قوله سبحانه: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} (النحل:1)، قال: "المراد من النهي هنا دقيق، لم يذكروه في موارد صيغ النهي. ويجدر أن يكون للتسوية، أي لا جدوى في استعجاله؛ لأنه لا يُعجل قبل وقته المؤجل له".
والذي ينبغي التنبيه إليه هنا، أن هذه المعاني التي جاءت عليها صيغة النهي، الخارجة عن التحريم، لم تُستفد من الصيغة نفسها، بل هي مستفادة من السياق الذي وردت فيه، بمعنى أن السياق الذي ورد فيه النهي، هو الذي صرف النهي عن حقيقته إلى معنى من المعاني المشار إليها. ومن ثم، فإن صيغة النهي إذا وردت في سياق لا يصرفها عن الأصل الذي وُضعت له، فهي تفيد التحريم بالاتفاق، قال في (شرح الكوكب المنير): "فإن تجردت صيغة النهي عن المعاني المذكورة والقرائن، هي للتحريم عند الأئمة الأربعة وغيرهم". وقال الزركشي: "إن النهي للتحريم قولاً واحداً، حتى يرد ما يصرفه". وقال الشنقيطي: "صيغة النهي المتجردة من القرائن تقتضي التحريم".
بقي أن نشير هنا إلى أن هذه الأوجه التي ذكرها علماء الأصول لمعنى (النهي) لا تخلو من بعض التكلف، وقد أشار الغزالي إلى هذا بقوله: "وهذه الأوجه عدها الأصوليون شغفاً منهم بالتكثير، وبعضها كالمتداخل، فإن قوله: "كل مما يليك" جعل للتأديب، وهو داخل في الندب، والآداب مندوب إليها".
الخبر الذي يفيد النهي
ذكر المفسرون أن النهي لا يكون بصيغة الجملة الطلبية التي تنهى عن فعل ما فحسب، بل قد يقع النهي أيضاً بالجملة الإنشائية، وهذا كثير في القرآن كقوله سبحانه: {لا تعبدون إلا الله} (البقرة:83)، فالجملة هنا خبرية، بدليل ثبوت نون الفعل، ولو كان نهياً لحذفت النون، لكن المعنى على النهي، أي: لا تعبدوا. ويقال مثل ذلك في قوله سبحانه: {لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} (البقرة:84)، أي: لا تسفكوا، ولا تخرجوا. ومثله أيضاً قوله عز وجل: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} (البقرة، أي: ولا تنفقوا. ونحوه كذلك قوله عز وجل: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} (النور:2)، فالآية لفظها خبرٌ، ومعناها النهي، أي: لا تنكحوا. ونظير ما تقدم قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (الواقعة:79)، فالآية هنا خبر بمعنى النهي، تفيد النهي عن مسِّ القرآن حال عدم الطهارة.
قال الزركشي معقباً على هذه الأمثلة ما حاصله: كل ما تقدم لفظه لفظ الخبر، المراد به النهي، وهو أبلغ في النهي؛ لأن خبر الشارع لا يتصور وقوع خلافه، والنهي قد يقع مخالفته، فكأن المعنى: عاملوا هذا النهي، معاملة خبر الحتم.
النهي المحول
أورد ابن عاشور من جملة أنواع النهي نوعاً لم نره لغيره من المفسرين، وهو ما أسماه بـ (النهي المحول)، واعتبره من أبلغ صيغ النهي؛ وذلك بأن يُوجه النهي إلى غير المراد نهيه؛ تنبيهاً له على تحذيره من الأمر المنهي عنه في اللفظ. ومثَّل لهذا النوع من النهي بقوله عز وجل: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} (الأنفال:25)، قال ابن عاشور : "أكد الأمر باتقائها (الفتنة) بنهيها هي عن إصابتها إياهم...والمقصودُ تحذير المخاطب بطريق الكناية؛ لأن نهي ذلك المذكور في صيغة النهي يستلزم تحذير المخاطب...ومنه قول العرب: لا أعرِفَنّك تفعل كذا".
ومن هذا الباب أيضاً قوله تعالى: {ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين} (الزخرف:62)، فصِيْغَ النهي عن اتباع الشيطان في صده إياهم بصيغة نهي الشيطان عن أن يصدهم؛ للإشارة إلى أن في قدرتهم التحرز من الوقوع في حبائل الشيطان، فكنى بنهي الشيطان عن صدّهم عن نَهْيهِمْ عن الطاعة له بأبلغ من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، على طريقة قول العرب: لا أُلْفِينَّكَ في موضع كذا. وعلى غرار ما تقدم أيضاً قوله سبحانه: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان} (الأعراف:27).
النهي بطريق نفي الكون
المراد من هذه الصيغة مجيء الجملة بصيغة النفي، لكن معناها يفيد النهي، وهذا كثير في القرآن الكريم، ومن أمثلته قوله عز وجل: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} (التوبة:113)، فنهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معاً عن الاستغفار للمشركين، بعد أن رخصه للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في قوله: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} (التوبة:80). ومنه أيضاً قوله عز وجل: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} (التوبة:17)، وكذلك قوله تعالى: {قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} (المائدة:116).
وذكر ابن عطية عند تفسيره لقوله تعالى: {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه} (مريم:35)، أن مثل هذا "معناه النفي، وهذا هو معنى هذه الألفاظ حيث وقعت، ثم يضاف إلى ذلك بحسب حال المذكور فيها؛ إما نهي وزجر كقوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا} (التوبة:120)، وإما تعجيز كقوله تعالى: {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} (النمل:60)، وإما تنـزيه كهذه الآية". ومن قبيل التعجيز أيضاً قوله عز وجل: {لا تنفذون إلا بسلطان} (الرحمن:33).
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]